فصل: ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة

  ذكر ورود السلطان بغداد ودخوله بابنة الخليفة

في هذه السنة في المحرم توجه السلطان طغرلبك من أرمينية إلى بغداد وأراد الخليفة أن يستقبله فاستعفاه من ذلك وخرج الوزير ابن جهير فاستقبله‏.‏

وكان مع السلطان من الأمراء‏:‏ أبو علي ابن الملك أبي كاليجار وسرخاب بن بدر وهزارسب وأبو منصور فرامرز بن كاكويه فنزل عسكره في الجانب الغربي فزاد بهم أذى‏.‏

ووصل عميد الملك إلى الخليفة وطالب بالجهة وبات بالدار فقيل له‏:‏ خطك موجود بالشرط وإن المقصود بهذه الوصلة الشرف لا الإجتماع وإنه إن كانت مشاهدة فتكون في دار الخلافة فقال السلطان‏:‏ نفعل هذا ولكن نفرد له من الدور والمساكن ما يكفيه ومعه خواصه وحجابه ومماليكه فإنه لا يمكنه مفارقتهم‏.‏

فحينئذ نقلت إلى دار المملكة في منتصف صفر فجلست على سرير ملبس بالذهب ودخل السلطان إليها وقبل الأرض وخدمها ولم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت هي له وحمل لها شيئاً كثيراً من الجواهر وغيرها وبقي كذلك يحضر كل يوم يخدم وينصرف‏.‏

وخلع على عميد الملك وعمل السماط عدة أيام وخلع على جميع الأمراء وظهر عليه سرور عظيم وعقد ضمان بغداد على أبي سعيد القايني بمائة وخمسين ألف دينار فأعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس وقبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن صقالب بمائتي ألف دينار‏.‏

  ذكر وفاة السلطان طغرلبك

في هذه السنة سار السلطان من بغداد في ربيع الأول إلى بلد الجبل فوصل إلى الري واستصحب معه أرسلان خاتون ابنة أخيه زوجة الخليفة لأنها شكت اطراح الخليفة لها فأخذها معه فمرض وتوفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان وكان عمره سبعين سنة تقريباً وكان عقيماً لم يلد ولداً‏.‏

وكان وزيره الكندري على سبعين فرسخاً فأتاه الخبر فسار ووصل إليه في يومين وهو بعد لم حكى عنه الكندري أنه قال‏:‏ رأيت وأنا بخراسان في المنام كأنني رفعت إلى السماء وأنا في ضباب لا أبصر معه شيئاً غير أني أشم رائحة طيبة وأنني أنادى‏:‏ إنك قريب من الباري جلت قدرته فاسأل حاجتك لتقضى فقلت في نفسي‏:‏ أسأل طول العمر فقيل‏:‏ لك سبعون سنة فقلت‏:‏ يا رب ما يكفيني فقيل‏:‏ لك سبعون سنة فقلت‏:‏ يا رب لا يكفيني فقيل‏:‏ لك سبعون سنة‏.‏

فلما مات حسب عميد الملك عمره على التقريب فكان سبعين سنة‏.‏

وكانت مملكته بحضرة الخلافة سبع سنين وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً‏.‏

وأما الأحوال بالعراق بعد وفاته فإنه كتب من ديوان الخلافة إلى شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وإلى نور الدولة دبيس بن مزيد وإلى هزارسب وإلى بني ورام وإلى بدر بن المهلهل بالاستدعاء إلى بغداد وأرسل لشرف الدولة تشريف وعمل أبو سعد القايني ضامن بغداد سوراً على قصر عيسى وجمع الغلات‏.‏

فانحدر إبراهيم بن شرف الدولة إلى أوانا وتسلم أصحابه الأنبار وانتشرت البادية في البلاد وقطعوا الطرقات‏.‏

وقدم إلى بغداد دبيس بن مزيد وخرج الوزير ابن جهير لاستقباله وقدم أيضاً ورام وتوفي ببغداد أبو الفتح بن ورام مقدم الأكراد الجاوانية فحمل إلى جرجرايا وفارق شرف الدولة مسلم بغداد ونهب النواحي فسار نور الدولة والأكراد وبنو خفاجة إلى قتاله‏.‏

ثم أرسل إليه من ديوان الخلافة رسول معه خلعة له وكوتب بالرضاء عنه وانحدر إليه نور الدولة دبيس فعمل له شرف الدولة سماطاً كثيراً وكان في الجماعة الأشرف أبو الحسين بن فخر الملك أبي غالب بن خلف كان قصد شرف الدولة مستجدياً فمضغ لقمة فمات من ساعته‏.‏

وحكى عنه بعض من صحبه أنه سمعه ذلك اليوم يقول‏:‏ اللهم اقبضني فقد ضجرت من الإضافة‏!‏ فلما توفي ورفع من السماط خاف شرف الدولة أن يظن من حضر أنه تناول طعاماً مسموماً قصد به غيره فقال‏:‏ يا معشر العرب لا برح منكم أحد ونهض وجلس مكان ابن فخر الملك المتوفي وجعل يأكل من الطعام الذي بين يديه فاستحسن الجماعة فعله وعادوا عنه وخلع على دبيس وولده منصور وعاد إلى حلته‏.‏

ولما رأى الناس ببغداد انتشار الأعراب في البلاد ونهبها حملوا السلاح لقتالهم وكان ذلك سبباً لكثرة العيارين وانتشار المفسدين‏.‏

  ذكر شيء من سيرته

كان عاقلاً حليماً من أشد الناس احتمالاً وأكثرهم كتماناً لسره ظفر بملطفات كتبها بعض خواصه إلى الملك أبي كاليجار فلم يطلعه على ذلك ولا تغير عليه حتى أظهر بعد مدة طويلة وحكى عنه أقضى القضاة الماوردي قال‏:‏ لما أرسلني القائم بأمر الله إليه سنة ثلاث وثلاثين كتبت كتاباً إلى بغداد أذكر فيها سيرته وخراب بلاده وأطعن عليه بكل وجه فوقع الكتاب من غلامي فحمل إليه فوقف عليه وكتمه ولم يحدثني فيه بشيء ولا تغير عما كان عليه من إكرامي‏.‏

وكان رحمه الله يحافظ على الصلوات ويصوم الاثنين والخميس وكان لبسه الثياب البياض وكان ظلوماً غشوماً قاسياً وكان عسكره يغصبون الناس أموالهم وأيديهم مطلقة في ذلك نهاراً وليلاً‏.‏

وكان كريماً فمن كرمه أن أخاه إبراهيم ينال أسر من الروم لما غزاهم بعض ملوكهم فبذل في نفسه أربعمائة ألف دينار فلم يقبل إبراهيم منه وحمله إلى طغرلبك فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان حتى خاطب طغرلبك في فكاكه فلما سمع طغرلبك رسالته أرسل الرومي إلى ابن مروان بغير فداء وسير معه رجلاً علوياً فأنفذ ملك الروم إلى طغرلبك ما لم يحمل في الزمان المتقدم وهو ألف ثوب ديباج وخمسمائة ثوب أصناف وخمسمائة رأس من الكراع إلى غير ذلك وأنفذ مائتي ألف دينار ومائة لبنة فضة وثلاثمائة شهري وثلاثمائة حمار مصرية وألف عنز بيض الشعور سود العيون والقرون وأنفذ إلى ابن مروان عشرة أمناء مسكاً وعمر ملك الروم الجامع الذي بناه مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية وعمر منارته وعلق فيه القناديل وجعل في محرابه قوساً ونشابة وأشاع المهادنة‏.‏

  ذكر ملك السلطان ألب أرسلان

لما مات السلطان طغرلبك أجلس عميد الملك الكندري في السلطنة سليمان بن داود جغري بك أخي السلطان طغرلبك وكان طغرلبك قد عهد إليه بالملك وكانت والدة سليمان عند طغرلبك فلما خطب له بالسلطنة اختلف الأمراء فمضى باغي سيان وأردم إلى قزوين وخطبا لعضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغري بك وهو حينئذ صاحب خراسان ومعه نظام الملك وزيره والناس مائلون إليه‏.‏

فلما رأى عميد الملك الكندري انعكاس الحال عليه أمر بالخطبة بالري للسلطان ألب أرسلان وبعده لأخيه سليمان‏.‏

  ذكر خروج حمو عن طاعة تميم بن المعز بإفريقية

في هذه السنة خالف حمو بن مليك صاحب مدينة سفاقس بإفريقية على الأمير تميم بن المعز بن باديس فجمع أصحابه واستعان بالعرب وسار إلى المهدية فسمع تميم الخبر فسار إليه بعساكر ومعه أيضاً طائفة من العرب من زغبة ورياح ووصل حمو إلى سلقطة والتقى الفريقان بها وكانت بينهما حرب شديدة فانهزم حمو ومن معه وأخذتهم السيوف فقتل أكثر حماته وأصحابه ونجا بنفسه تفرقت رجاله وعاد تميم مظفراً منصوراً‏.‏

ثم قصد بعد هذه الحادثة مدينة سوسة وكان أهلها قد خالفوا عليه فملكها وعفا عنهم وحقن دماءهم‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في المحرم قبض بمصر على الوزير أبي الفرج بن المغربي‏.‏

وفيها دخل الصليحي صاحب اليمن إلى مكة مالكاً لها فأحسن السيرة فيها وجلب إليها الأقوات ورفع جور من تقدم وظهرت منه أفعال جميلة‏.‏

وفيها في ربيع الآخر انقض كوكب عظيم له ضوء كثير‏.‏

وفيها في شعبان كان بالشام زلزلة عظيمة خرب منها كثير من البلاد وانهدم سور طرابلس‏.‏

وفيها ملك أمير الجيوش بدر دمشق للمستنصر صاحب مصر فوصل إليها في الثالث والعشرين من ربيع الآخر وأقام بها واختلف هو والجند فثاروا به ووافقهم العامة فضعف وفيها توفي سعيد بن نصر الدولة بن مروان صاحب آمد من ديار بكر وزهير بن الحسين بن علي أبو نصر الجذامي الفقيه الشافعي تفقه على أبي حامد الأسفراييني وسمع الحديث الكثير ورواه وكان موته بسرخس‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة

  ذكر القبض على عميد الملك وقتله

في هذه السنة قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري وزير طغرلبك‏.‏

وسبب ذلك أن عميد الملك قصد خدمة نظام الملك وزير ألب أرسلان وقدم بين يديه خمسمائة دينار واعتذر وانصرف من عنده فسار أكثر الناس معه فخوف السلطان من غائلة ذلك فقبض عليه وأنفذه إلى مرو الروذ وأتت عليه سنة في الاعتقال ثم نفذ إليه غلامين فدخلا عليه وهو محموم فقالا له‏:‏ تب مما أنت عليه ففعل ودخل فودع أهله وخرج إلى مسجد هناك فصلى ركعتين وأراد الغلامان خنقه فقال‏:‏ لست بلص‏!‏ وخرق خرقة من طرف كمه وعصب عينيه فضربوه بالسيف وكان قتله في ذي الحجة ولف في قميص دبيقي من ملابس الخليفة وخرقة كانت البردة التي عند الخلفاء فيها وحملت جثته إلى كندر فدفن عند أبيه وكان عمره يوم قتل نيفاً وأربعين سنة‏.‏

وكان سبب اتصاله بالسلطان طغرلبك أن السلطان لما ورد نيسابور طلب رجلاً يكتب له ويكون فصيحاً بالعربية فدل عليه الموفق والد أبي سهل وأعطته السعادة وكان فصيحاً فاضلاً وانتشر من شعره ما قاله في غلام تركي صغير السن كان واقفاً على رأسه يقطع بالسكين قصبة فقال عميد الملك فيه‏:‏ أنا مشغول بحبه وهو مشغول بلعبه لو أراد الله خيراً وصلاحاً لمحبه نقلت رقة خديه إلى قسوة قلبه صانه الله فما أك - ثر إعجابي بعجبه ومن شعره‏:‏ إن كان بالناس ضيق عن مناقشتي فالموت قد وسع الدنيا على الناس مضيت والشامت المغبون يتبعني كل لكأس المنايا شارب حاسي وقال أبو الحسن الباخرزي يخاطب ألب أرسلان عند قتل الكندري‏:‏

قضى كل مولى منكما حق عبده فخوله الدنيا وخولته العقبى وكان عميد الملك خصياً قد خصاه طغرلبك لأنه أرسله يخطب عليه امرأة ليتزوجها فتزوجها هو وعصى عليه فظفر به وخصاه وأقره على خدمته‏.‏

وقيل بل أعداؤه أشاعوا عنه أنه تزوجها فخصى نفسه ليخلص من سياسة السلطنة فقال فيه علي بن الحسن الباخرزي‏:‏ قالوا‏:‏ محا السلطان عنه بعزة سمة الفحول وكان قرماً صائلا قلت‏:‏ اسكتوا فالآن زاد فحولة لما اغتدى عن أنثييه عاطلا فالفحل يأنف أن يسمى بعضه أنثى لذلك جذه مستأصلا يعني بالأنثى واحدة الأنثيين‏.‏

وكان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقعة في الشافعي رضي الله عنه بلغ تعصبه أنه خاطب السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان فأذن في ذلك فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية فأنف من ذلك أئمة خراسان منهم‏:‏ الإمام أبو القاسم القشيري والإمام أبو المعالي الجويني وغيرهما ففارقوا خراسان وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته يدرس ويفتي فلهذا لقب إمام الحرمين فلما جاءت الدولة النطامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم وأحسن إليهم وقيل إنه تاب من الوقيعة في الشافعي فإن صح فقد أفلح وإلا فعلى نفسها براقش تجني‏.‏

ومن العجب أن ذكره دفن بخوارزم لما خصي ودمه مسفوح بمرو وجسده مدفون بكندر ورأسه ما عدا قحفه مدفون بنيسابور ونقل قحفه إلى كرمان لأن نظام الملك كان هناك فاعتبروا يا أولي الأبصار‏.‏

ولما قرب للقتل قال للقاصد إليه‏:‏ قل لنظام الملك‏:‏ بئس ما عودت الأتراك قتل الوزراء وأصحاب الديوان ومن حفر قليباً وقع فيه‏.‏

ولم يخلف عميد الملك غير بنت‏.‏

  ذكر ملك ألب أرسلان ختلان وهراة وصغانيان

لما توفي طغرلبك وملك ألب أرسلان عصى عليه أمير ختلان بقلعته ومنع الخراج فقصده السلطان فرأى الحصن منيعاً على شاهق فأقام عليه وقاتله فلم يصل منه إلى مراده‏.‏

ففي بعض الأيام باشر ألب أرسلان القتال بنفسه وترجل وصعد في الجبل فتبعه الخلق وتقدموا عليه في الموقف وألحوا في الزحف والقتال وكان صاحب القلعة على شرفة من سورها يحرض الناس على القتال فأتته نشابة من العسكر فقتلته وتسلم ألب أرسلان القلعة وكان عمه فخر الملك بيغو بن ميكائيل في هراة فعصى أيضاً عليه وطمع في الملك لنفسه فسار إليه ألب أرسلان في العساكر العظيمة فحصره وضيق عليه وأدام القتال ليلاً ونهاراً فتسلم المدينة وخرج عمه إليه فأبقى عليه وأكرمه وأحسن صحبته‏.‏

وسار من هناك إلى صغانيان وأميرها اسمه موسى وكان قد عصى عليه فلما قاربه ألب أرسلان صعد موسى إلى قلعة على رأس جبل شاهق ومعه من الرجال الكماة جماعة كثيرة فوصل السلطان إليه وباشر الحرب لوقته فلم ينتصف النهار حتى صعد العسكر الجبل وملكوا القلعة قهراً وأخذ موسى أسيراً فأمر بقتله فبذل في نفسه أموالاً كثيرة فقال السلطان‏:‏ ليس هذا أوان تجارة واستولى على تلك الولاية بأسرها وعاد إلى مرو ثم منها إلى نيسابور‏.‏

  ذكر عود ابنة الخليفة إلى بغداد والخطبة للسلطان ألب أرسلان ببغداد

في هذه السنة أمر السلطان ألب أرسلان السيدة ابنة الخليفة بالعود إلى بغداد وأعلمها أنه لم يقبض على عميد الملك إلا لما اعتمده من نقلها من بغداد إلى الري بغير رضاء الخليفة وأمر الأمير ايتكين السليماني بالمسير في خدمتها إلى بغداد والمقام بها شحنة وأنفذ أبا سهل محمد بن هبة الله المعروف بابن الموفق للمسير في الصحبة وأمره بالمخاطبة في إقامة الخطبة له فمات في الطريق مجدراً‏.‏

وهذا أبو سهل من رؤساء أصحاب الشافعي بنيسابور وكان يحضر طعامه في رمضان كل ليلة أربع مائة متفقه ويصلهم ليلة العيد بكسوة ودنانير تعمهم فلما سمع بموته أرسل العميد أبا الفتح المظفر بن الحسين فمات أيضاً في الطريق فألزم السلطان رئيس العراقين بالمسير فوصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر وخرج عميد الدولة ابن الوزير فخر الدولة بن جهير لتلقيهم واقترح السلطان أن يخاطب بالولد المؤيد فأجيب إلى ذلك ولقب ضياء الدين عضد الدولة‏.‏

وجلس الخليفة جلوساً عاماً سابع جمادى الأولى وشافه الرسل بتقليد ألب أرسلان للسلطنة وسلمت الخلع بمشهد من الخلق وأرسل إليه من الديوان لأخذ البيعة النقيب طراداً الزينبي فوصلوا إليه وهو بنقجوان من أذربيجان فلبس الخلع وبايع للخليفة‏.‏

  ذكر الحرب بين ألب أرسلان وقتلمش

سمع ألب أرسلان أن شهاب الدولة قتلمش وهو من السلجوقية أيضاً وهو جد الملوك أصحاب قونية وقيصرية وأقصرا وملطية يومنا هذا قد عصى عليه وجمع جموعاً كثيرة وقصد الري ليستولي عليها فجهز ألب أرسلان جيشاً عظيماً وسيرهم على المفازة إلى الري فسبقوا قتلمش إليها‏.‏

وسار ألب أرسلان من نيسابور أول المحرم من هذه السنة فلما وصل إلى دامغان أرسل إلى قتلمش ينكر عليه فعله وينهاه عن ارتكاب هذا الحال ويأمره بتركها فإنه يرعى له القرابة والرحم فأجاب قتلمش جواب مغتر بمن معه من الجموع ونهب قرى الري وأجرى الماء على وادي الملح وهي سبخة فتعذر سلوكها فقال نظام الملك‏:‏ قد جعلت لك من خراسان جنداً ينصرونك ولا يخذلونك ويرمون دونك بسهام لاتخطيء وهم العلماء والزهاد فقد جعلتهم بالإحسان إليهم من أعظم أعوانك‏.‏

وقرب السلطان من قتلمش فلبس الملك السلاح وعبأ الكتائب واصطف العسكران‏.‏

وكان قتلمش يعلم علم النجوم فوقف ونظر فرأى أن طالعه في ذلك اليوم قد قارنه نحوس لا يرى معها ظفراً فقصد المحاجزة وجعل السبخة بينه وبين ألب أرسلان ليمتنع من اللقاء‏.‏

فسلك ألب أرسلان طريقاً في الماء وخاض غمرته وتبعه العسكر فطلع منه سالماً هو وعسكره فصاروا مع قتلمش واقتتلوا فلم يثبت عسكر قتلمش لعسكر السلطان وانهزموا لساعتهم ومضى منهزماً إلى قلعة كردكوه وهي من جملة حصونه ومعاقله واستولى القتل والأسر على

ولما سكن الغبار ونزل العسكر وجد قتلمش ميتاً ملقى على الأرض لا يدري كيف كان موته قيل‏:‏ إنه مات من الخوف والله أعلم فبكى السلطان لموته وقعد لعزائه وعظم عليه فقده فسلاه نظام الملك ودخل ألب أرسلان إلى مدينة الري آخر المحرم من السنة‏.‏

ومن العجب أن قتلمش هذا كان يعلم علم النجوم قد أتقنه مع أنه تركي ويعلم غيره من علوم القوم ثم إن أولاده من بعده لم يزالوا يطلبون هذه العلوم الأولية ويقربون أهلها فنالهم بهذا غضاضة في دينهم وسيرد من أخبارهم ما يعلم منه ذلك وغيره من أحوالهم‏.‏

  ذكر فتح ألب أرسلان مدينة آني وغيرها من بلاد النصرانية

ثم سار السلطان من الري أول ربيع الأول وسار إلى أذربيجان فوصل إلى مرند عازماً على قتال الروم وغزوهم فلما كان بمرند أتاه أمير من أمراء التركمان كان يكثر غزو الروم اسمه طغدكين ومعه من عشيرته خلق كثيرر قد ألفوا الجهاد وعرفوا تلك البلاد وحثه على قصد بلادهم وضمن له سلوك الطريق المستقيم إليها فسار معه فسلك بالعساكر في مضايق تلك الأرض ومخارمها فوصل إلى نقجوان فأمر بعمل السفن لعبور نهر أرس فقيل له إن سكان خويّ وسلماس من أذربيجان لم يقوموا بواجب الطاعة وإنهم قد امتنعوا ببلادهم فسير إليهم عميد خراسان ودعاهم إلى الطاعة وتهددهم إن امتنعوا فأطاعوا وصاروا من جملة حزبه وجنده واجتمع عليه هناك من الملوك والعساكر ما لا يحصى‏.‏

فلما فرغ من جمع العساكر والسفن سار إلى بلاد الكرج وجعل مكانه في عسكره ولده ملكشاه ونظام الملك وزيره فسار ملكشاه ونظام الملك إلى قلعة فيها جمع كثير من الروم فنزل أهلها منها وتخطفوا من العسكر وقتلوا منهم فئة كثيرة فنزل نظام الملك وملكشاه وقاتلوا من بالقلعة وزحفوا إليهم فقتل أمير القلعة وملكها المسلمون وساروا منها إلى قلعة سرماري وهي قلعة فيها في المياه الجارية والبساتين فقاتلوها وملكوها وأنزلوا منها أهلها وكان بالقرب منها قلعة أخرى ففتحها ملكشاه وأراد تخريبها فنهاه نظام الملك عن ذلك وقال‏:‏ هي ثغر للمسلمين وشحنها بالرجال والذخائر والأموال والسلاح وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان‏.‏

وسار ملكشاه ونظام الملك إلى مدينة مريم نشين وفيها كثير من الرهبان والقسيسين وملوك النصارى وعامتهم يتقربون إلى أهل هذه البلدة وهي مدينة حصينة سورها من الأحجار الكبار الصلبة المشدودة بالرصاص والحديد وعندها نهر كبير فأعد نظام الملك لقتالها ما يحتاج إليه من السفن وغيرها وقاتلها وواصل قتالها ليلاً ونهاراً وجعل العساكر عليها يقاتلون بالنوبة فضجر الكفار وأخذهم الإعياء والكلال فوصل المسلمون إلى سورها ونصبوا عليه السلاليم وصعد إلى أعلاه لأن المعاول كلت عن نقبه لقوة حجره‏.‏

فلما رأى أهلها المسلمين على السور فت ذلك في أعضادهم وسقط في أيديهم ودخل ملكشاه البلد ونظام الملك وأحرقوا البيع وخربوها وقتلوا كثيراً من أهلها وأسلم كثير فنجوا من القتل‏.‏

واستدعى ألب أرسلان إليه ابنه ونظام الملك وفرح بما يسره الله من الفتح على يد ولده وفتح ملكشاه في طريقه عدة من القلاع والحصون وأسر من النصارى ما لا يحصون كثرة‏.‏

وساروا إلى سبيذ شهر فجرى بين أهلها وبين المسلمين حروب شديدة استشهد فيها كثير من المسلمين ثم إن الله تعالى يسر فتحها فملكها ألب أرسلان‏.‏

وسار منها إلى مدينة أعآل لآل وهي حصينة عالية الأسوار شاهقة البنيان وهي من جهة الشرق والغرب على جبل عال وعلى الجبل عدة من الحصون ومن الجانبين الآخرين نهر كبير لا يخاض فلما رآها المسلمون علموا عجزهم عن فتحها والاستيلاء عليها وكان ملكها من الكرج وهكذا ما تقدم من البلاد التي ذكرنا فتحها وعقد السلطان جسراً على النهر عريضاً واشتد القتال وعظم الخطب فخرج من المدينة رجلان يستغيثان ويطلبان الأمان والتمسا من السلطان أن يرسل معهما طائفة من العسكر فسير جمعاً صالحاً فلما جاوزوا الفصيل أحاط بهم الكرج من أهل المدينة وقاتلوهم فأكثروا القتل فيهم ولم يتمكن المسلمون من الهزيمة لضيق المسلك‏.‏

وخرج الكرج من البلد وقصدوا العسكر واشتد القتال وكان السلطان ذلك الوقت يصلي فأتاه الصريخ فلم يبرح حتى فرغ من صلاته وركب وتقدم إلى الكفار فقاتلهم وكبر المسلمون عليهم فولوا منهزمين فدخلوا البلد والمسلمون معهم ودخلها السلطان وملكها واعتصم جماعة من أهلها في برج من أبراج المدينة فقاتلهم المسلمون فأمر السلطان بإلقاء الحطب حول البرج وإحراقه ففعل ذلك وأحرق البرج ومن فيه وعاد السلطان إلى خيامه وغنم المسلمون من المدينة ما لايحد ولا يحصى‏.‏

ولما جن الليل عصفت ريح شديدة وكان قد بقي من تلك النار التي أحرق بها البرج بقية كثيرة فأطارتها الريح فاحترقت المدينة بأسرها وذلك في رجب سنة ست وخمسين وملك السلطان قلعة حصينة كانت إلى جانب تلك المدينة وأخذها وسار منها إلى ناحية قرس ومدينة آني وبالقرب منها ناحيتان يقال لهما سيل ورده ونورة فخرج أهلهما مذعنين بالإسلام وخربوا البيع وبنوا المساجد‏.‏

وسار منها إلى مدينة آني فوصل إليها فرآها مدينة حصينة شديدة الامتناع لا ترام ثلاثة أرباعها على نهر أرس والربع الآخر نهر عميق شديد الجرية لو طرحت فيه الحجارة الكبار لدحاها وحملها والطريق إليها على خندق عليه سور من الحجارة الصم وهي بلدة كبيرة عامرة كثيرة الأهل فيها ام يزيد على خمسمائة بيعة فحصرها وضيق عليها إلا أن المسلمين قد أيسوا من فتحها لما رأوا من حصانتها فعمل السلطان برجاً من خشب وشحنه بالمقاتلة ونصب عليه المنجنيق ورماه النشاب فكشفوا الروم عن السور وتقدم المسلمون إليه لينقبوه فأتاهم من لطف الله ما لم يكن في حسابهم فانهدم قطعة كبيرة من السور بغير سبب فدخلوا المدينة وقتلوا من أهلها ما لا يحصى بحيث أن كثيراً من المسلمين عجزوا عن دخول البلد من كثرة القتلى وأسروا نحواً مما قتلوا‏.‏وسارت البشرى بهذه الفتوح في البلاد فسر المسلمون وقريء كتاب الفتح ببغداد في دار الخلافة فبرز خط الخليفة بالثناء على ألب أرسلان والدعاء له‏.‏

ورتب فيها أميراً في عسكر جرار وعاد عنها وقد أرسله ملك الكرج في الهدنة فصالحه على أداء الجزية كل سنة فقبل ذلك‏.‏

ولما رحل السلطان عائداً قصد أصبهان ثم سار منها إلى كرمان فاستقبله أخوه قاروت بك بن جغري بك داود ثم سار منها إلى مرو فزوج ابنه ملكشاه بابنة خاقان ملك ما وراء النهر وزفت إليه في هذا الوقت وزوج ابنه أرسلانشاه بابنة صاحب غزنة واتحد البيتان‏:‏ البيت السلجوقي والبيت المحمودي واتفقت الكلمة‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة في ربيع الأول ظهر بالعراق وخوزستان وكثير من البلاد جماعة من الأكراد خرجوا يتصيدون فرأوا في البرية خيماً سوداً وسمعوا منها لطماً شديداً وعويلاً كثيراً وقائلاً يقول‏:‏ قد مات سيدوك ملك الجن وأي بلد لم يلطم أهله عليه ويعملوا له العزاء قلع أصله وأهلك أهله فخرج كثير من النساء في البلاد إلى المقابر يلطمن وينحن وينشرن شعورهن وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك وكان ذلك ضحكة عظيمة‏.‏

ولقد جرى في أيامنا نحن في الموصل وما والاها من البلاد إلى العراق وغيرها نحو هذا وذلك أن الناس سنة ستمائة أصابهم وجع كثير في حلوقهم ومات منه كثير من الناس فظهر أن امرأة من الجن يقال لها أم عنقود مات ابنها عنقود وكل من لا يعمل له مأتماً أصابه هذا المرض فكثر فعل ذلك وكانوا يقولون‏:‏ يا أم عنقود اعذرينا‏.‏

قد مات عنقود ما درينا وكان النساء يلطمن وكذلك الأوباش‏.‏

وفيها ولي أبو الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي نابة العلويين ببغداد وإمارة الموسم ولقب بالطاهر ذي المناقب وكان المرتضى أبو الفتح أسامة قد استعفى من النقابة وصاهر بني خفاجة وانتقل معهم إلى البرية وتوفي أسامة بمشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام في رجب سنة اثنتين وسبعين‏.‏

وفيها في جمادى الآخرة توفي أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي النحوي المتكلم وكان له اختيار في الفقه وكان عالماً بالنسب ويمشي في الأسواق مكشوف الرأس ولم يقبل من أحد شيئاً وكان موته في جمادى الآخرة وقد جاوز ثمانين سنة وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار‏.‏

وفيها انقض كوكب عظيم وكثر نوره فصار أكثر من نور القمر وسمع له دوي عظيم ثم غاب‏.‏